في زمنٍ تتداخل فيه الهويات مع الأهواء، وتتحول فيه الاختلافات إلى أدوات للتنمر والاستقواء، نجد أنفسنا أمام ظواهر اجتماعية غريبة، كالعنصرية الجهوية، والتفاخر بالانتماء المناطقي على حساب الآخرين، هذه الظواهر ليست جديدة، لكنها تتخذ أشكالًا أكثر سخافة في عصرنا الحالي، حيث أصبح البعض يلتقط لغة اللكنة قبل أن يقرأ لغة الفكر! فلنغوص في هذا العالم العبثي بنظرة ساخرة.
أنا وحدي ابن المدينة وغيري لا يحق له أن يفخر بأنه منها “منطق تافه”.
إنها جملة تختصر مأساة الهوية المفرطة، وإلا لماذا يشعر البعض بأن حيزهم الجغرافي أو المناطقي يمنحهم تفوقًا أخلاقيًا أو ثقافيًا؟ هل هو إرث الاستعمار الذي زرع فينا عقدة “الأفضلية”؟ أم أن الأمر لا يتعدى كونه محاولة بائسة لملء فراغ الهوية الفردية؟ يبدو أن البعض يعتقد أن مكان الميلاد شهادة تفوق تُعلق على الصدر، بينما الحقيقة أن الكبرياء الحقيقي يكمن في العمل والإبداع، لا في موقع الجغرافيا.
النعرات الجهوية ليست وليدة اليوم، إنها امتداد لتاريخ طويل من تقسيم المجتمعات على أسس عرقية أو تصنيفات مناطقية، لكن يبدو أنها تجد في وسائل التواصل الاجتماعي أرضًا خصبة للنمو والتكاثر، فبدلاً من أن تكون هذه المنصات وسيلة للتواصل والتفاهم، أصبحت مسرحًا للصراعات الافتراضية التي تعكس تعصبًا حقيقيًا أعمى على أرض الواقع.
هناك نوع من الناس يمتلك مهارة غريبة، وهي قدرته على تصنيفك بناءً على طريقة نطقك للكلمات. هم الأغبياء الذين لا يهتمون بما تقول، بل بكيفية نطقك لما تقول، وكأن اللكنة هي مرآة العقل! ربما لو استثمروا هذه المهارة في تعلم لغات جديدة حية أو قراءة كتب مفيدة، لكان العالم مكانًا أفضل من حياة الصعلكة التي يعيشونها في المواقع الإفتراضية.
أما عن صور التنمر غالبًا فهي الشعور بالنقص والدونية، فالذين يمارسون التنمر الجهوي يحاولون تعويض شعور داخلي بتلك العقدة عبر السخرية من الآخرين، إنه نوع من الإسقاط النفسي، حيث يصبح الآخر هو “المستهدف” الذي يجب مهاجمته لإخفاء العيوب الذاتية.
وللإجابة على من المستفيد من كل هذا الإستقواء؟ بطبيعة الحال لا أحد، وهذه الصراعات لا تخدم سوى تعزيز الانقسامات الاجتماعية وإضعاف المجتمعات ككل، وربما هناك أطراف تسعى لاستغلال هذه الانقسامات لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية، لكن الضحية دائمًا هي الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي.
أما عن الحسد والغل لدى البعض فتلك ظاهرة إنسانية قديمة، لكنها أضحت اليوم أكثر تداولا عندما يتعلق الأمر بمكان الإقامة، ولماذا يحسد البعض سكان مناطق معينة على ما لديهم من سعة حال ومال؟ بل ويعتبرونهم دخلاء على المدينة، هل لأنهم يرون في ذلك تهديدًا لذواتهم؟ أم أن الأمر لا يتعدى كونه انعكاسًا للشعور بالعجز عن تحقيق ما حققه هؤلاء؟
تُذكرنا هذه الظواهر بمدى هشاشة الهوية الإنسانية وقصر عمرها لدى هؤلاء النفر عندما تتأسس على ركائز مشبوهة كالانتماءات القادمة من خارج الحدود، وممن يخجلون من التصريح بأصولهم، ولعل خير سبيل لمواجهة هذه النزعات هو تسليط الضوء عليها بأسلوب ساخر، فالضحك الواثق يظل أقوى سلاح في مواجهة هذا العبث الإجتماعي الطارئ على المدينة الأم التي جمعت الكل تحت سقف واحد لا تفرق بين قريب أو غريب.
خلاصة القول .. عزيزي الجهوي، عد إلى قاعك ، وستجد نفسك اليوم في مكان معزول عن العالم الذي رسمت خارطته في مخيلتك أنه مرجعك المزيف.