الإثنين , 17 مارس 2025
تريدون أن نعاند؟ تعالوا نجرب لعبة العناد
لعل عبدالملك الحوثي يدرك أن أسوأ ما يواجهه اليوم هو أن عدوه من نفس طينته. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب عنيد وليس من النوع الذي يعبأ بالعواقب. لعل من المؤكد أن ثمة فارقا كبيرا بين الاثنين، على المستوى الشخصي وعلى مستوى الدولة التي يقودها كل منهما. فترامب، على الرغم من كل ما يحاول البعض أن يلصقه به من أوصاف، لم يصبح مليارديرا لأنه جاهل أو أحمق. ومن المؤكد أنه صعب المراس، وليس تقليديا في طريقته في العمل، سواء كرجل أعمال ناجح أو كسياسي أو كزعيم لأقوى دولة في العالم. أما الحوثي فيحتمي بالغموض والإيمان الغيبي لمريديه والعزلة كطرق للإيحاء بأن “تحت القبة إمام”. وهما إذ يتشابهان بالعناد، فهذا لا يعني أن السبحة تكر وتسجل حبات شبه أخرى.
يقف ترامب على رأس أهم مؤسسة مالية واقتصادية وعسكرية ونفوذ سياسي في التاريخ المعاصر. وعلى العكس من الرؤساء الأميركيين الذين بددوا الكثير من قوة الولايات المتحدة في التحسب السياسي الداخلي والحسابات الدبلوماسية الخارجية، يبدو ترامب مستعدا للذهاب إلى أي مدى يمكن تخيله لتحقيق ما يريد دوليا. وها هو خلال أسابيع قليلة منذ أن تولى زمام القوة العظمى الأكبر، فإن الجميع، داخليا وخارجيا، يقولون إن عليهم أن يعدوا إلى العشرة قبل أن يفعلوا أي شيء يخص ترامب. وأمام عدسات الكاميرات عمد إلى بهدلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فصار علينا أن نتخيل كم مشهدا من دون كاميرات قد حدث، وكم مكالمة هاتفية جرت وكم رسالة شفهية نقلت وكم بريدا أرسل من نوعية ترامب – زيلينسكي.
◄ لو جمعنا علامات ودلالات النصر التي أطلقها قارعو طبول الحرب لكان لدينا اليوم جبل من الترهات؛ ما بقي فعلا هو أكوام المآسي التي خلفها الإسرائيليون في غزة وجنوب لبنان والضاحية
على الطرف الآخر يتربع عبدالملك الحوثي. لا نعرف بالضبط على ماذا يتربع، لكنه بالتأكيد يجلس ويقلب أزمات بلاده التي لا تنتهي. لا يكفي الحوثي ما لديه من أزمات، بل يعمد إلى “استيراد” مشاريع أزمات مثل دخوله الاعتباطي على خط الأزمة في غزة. صار الحوثي يزايد على الفلسطينيين الذين أدركوا حجم الخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبوه بـ“طوفان الأقصى” ولا يريدون من يقول لهم إن الحرب يمكن أن تشتعل ثانية. يريد الحوثي إعادة فتح جبهة البحر الأحمر التي أضرت المصريين وآذتهم، وهم البوابة التي تمر منها المساعدات لغزة، وصار من خططه التحرش بالملاحة البحرية من جديد.
ما حدث بالطبع أن الكثير تغير خلال الأسابيع القليلة الماضية. رحل رئيس عن البيت الأبيض وجاء رئيس. هذا الرئيس الذي يمتاز بعناده، لم يضيّع الوقت. كان يكفي أن يهدد عبدالملك الحوثي كي تنطلق الطائرات الأميركية من حاملات الطائرات والصواريخ من البوارج المرافقة، لتضرب بقسوة لم يعتدها الحوثي من الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. القسوة هنا لم تقس بصوت الانفجارات، بل بما خلفته من دمار، بعضه وصل إلى مناطق من المعروف أن عبدالملك الحوثي يرتادها شخصيا، وتقول القوات الأميركية إنها تأكدت من أن بعضا من القنابل والصواريخ قد استهدفت قيادات حوثية سياسية وميدانية كبيرة. من الصعب القول إن سيناريو شبيها بما حدث مع حزب الله ولبنان يتم تنفيذه الآن في اليمن، وإن اللبيب بالإشارة يفهم. لا يوجد ما يمنع الولايات المتحدة من أن تكون قد أعدت هذا السيناريو منذ مدة بالتنسيق مع الإسرائيليين أو من دونهم. وعلينا أن ندرك أن واشنطن لا يعوزها المال أو العتاد أو “الخيال العلمي” الذي يمكن أن يحول الأحلام إلى حقيقة كما لم يحدث من قبل.
عندما لم يفهم حسن نصرالله رسالة الإسرائيليين، انتقل عنيد آخر معروف ومشهور هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى مستوى آخر من التصعيد، وبدأ هجوما معقدا أودى بحياة كل شخص له حيثية سياسية أو معنوية أو عسكرية لدى حزب الله. وبقية القصة كما يقال معروفة. سقط الرئيس السوري بشار الأسد كنتيجة عرضية.
لا شك أن كثيرين في اليمن، وبالتأكيد في الخليج عموما، يتمنون ألّا يفهم عبدالملك الحوثي الرسالة. فوفق كل الاعتبارات، بالغ زعيم “أنصارالله” بقدراته وصار يعتقد أنه فعلا يصنع الصواريخ والمسيرات وأن بوسعه أن يتحدى القوى العظمى وأن يخيفها إلى مستوى يجعلها تهرب بعيدا. ندرك بالطبع إنما هو لسان حال التشويش الإيراني وما يريد الحرس الثوري إيصاله من طهران إلى واشنطن. لا يهم الإيرانيون ما يحدث -كما يروي سكوتهم المريب من يوم مقتل نصرالله إلى يومنا هذا- طالما أن طهران بعيدة عن أيّ ضربة. حتى الإسرائيليون يعرفون طبيعة الرسائل المتبادلة، ولهذا تراهم لا يكثرون منها أولا، ولا يزيدون من عيارها ثانيا. الصاروخ الإسرائيلي الذي اخترق كل منظومات الدفاع الجوي الإيرانية لـ”الرد” على تصفية نصرالله، كان صاروخا واحدا بلا رأس متفجر، تمكن من اختراق الدفاعات وتكسيرها بالاصطدام بها من دون تفجيرها. هذه رسائل تحبها طهران لأنها لا تثير فرقعات تدفع الحرس الثوري مجبرا إلى محاولة الرد عليها، أي أن يقف عاريا ولا يستطيع الرد.
◄ من الصعب القول إن سيناريو شبيها بما حدث مع حزب الله ولبنان يتم تنفيذه الآن في اليمن، وإن اللبيب بالإشارة يفهم. لا يوجد ما يمنع الولايات المتحدة من أن تكون قد أعدت هذا السيناريو منذ مدة بالتنسيق مع الإسرائيليين أو من دونهم
اليوم ترامب يصف الأمور من دون لف أو دوران. يحاول الحرس الثوري شراء بعض الوقت -أو هكذا يعتقد واهما- لتحقيق غاية ما. ما ندركه جيدا أن لدى الولايات المتحدة ما يكفي من السلاح والتكتيكات العسكرية لهزيمة الحوثي هزيمة مرّة. للأسف هي هزيمة يدفع ثمنها شعب اليمن الكريم على حساب الحد الأدنى مما تبقى لديه بعد حروب استنزفته. الاستعراضات التي يقوم بها لن تحل أزمة، ولا يمكن تخيل أن يكون الفلسطينيون ساذجين إلى درجة أن ينتظروا نصرا حوثيا على الأميركيين يمكن أن يضعوه في خانة المكتسبات التي “حققتها” عملية “طوفان الأقصى”، أو أن يمر صاروخ بالستي أو مسيّرة ليضربا هدفا في إسرائيل أو مصر فيقول الحوثي ومن خلفه إيران إنها علامات الساعة، أي “ساعة النصر”. مشاهد الدمار في غزة جعلت الناس يفكرون مرات قبل أن يطلقوا مثل هذه التصريحات، وإذا أطلقوها تكنْ عبثا لفظيا يراهنون على أن الإنترنت سـ“تنساه” بسرعة في زحمة ما يقال. فيوتيوب مثلا قد يقوم بتداول مثل هذه “المشاهد اللفظية” إن جاز التعبير، التي سرعان ما تطوى وتنسى. لو جمعنا علامات ودلالات النصر التي أطلقها قارعو طبول الحرب واستمرارها في غزة، لكان لدينا اليوم جبل من الترهات. ما بقي فعلا هو أكوام المآسي التي خلفها الإسرائيليون في غزة وجنوب لبنان والضاحية. أي شيء آخر بلا قيمة أو معنى، ولا يستحق أصحاب الطبول تلك إلا أن ينقدوا ذواتهم ويحاسبوا أنفسهم على ما اقترفوه من مآسٍ بقبولهم أن يسمحوا للإيرانيين في الأصل بأن يبيعوا في غزة وفي لبنان وفي الضفة مؤخرا وفي اليمن على فترات متقطعة ومتباعدة أوهام الانتصارات هذه.
هذا يعيدنا إلى حيث يزداد مؤشر القلق لدينا. هذا رئيس أميركي مستعد للذهاب إلى أبعد ما يمكن تخيله للقول إن زعيما يسخّر الخرافات كوسيلة لتحقيق غاياته السياسية يمكن أن يتحدى كل القوة الأميركية، وأن يلوّح بأنه قادر على ضربها أو هزيمتها. لشخص عنيد مثل ترامب، قد يبدأ الأمر وهو يشاهد فيديوهات لمقاتلين حوثيين يرفعون شعار “الصرخة” الذي يتضمن من ضمن ما يتضمن “الموت لأمريكا” أشبه بنكتة يضحك عليها. ولكن ما إن يحاول هذا المقاتل أو من يوجهه أن يحول نكتة “الصرخة” إلى فعل عدائي عسكري، من خلال استعارة صاروخ بالستي أو مسيرة من إيران، حتى يردّ، وسيرد بقسوة تكون على حساب اليمنيين من المساكين الذين تم غسل عقولهم، وتحويل إيمانهم البسيط إلى موقف عقائدي لا يعرفون كيف يمكن الخروج به من حرب واسعة النطاق يخطط لها الحرس الثوري ويحرك دماها على مسرح صنعاء. هذا هو العناد الخطير والقاتل، بل والساذج، الذي يترك المرشد الأعلى علي خامنئي بمكانه في طهران يتفرج، بينما يسقط حليف آخر مهم من حلفائه، وتدمر بنى تحتية ويقتل أبرياء من دون سبب. هذه قائمة تطول الآن بطريقة لم يتحسب لها حلفاء إيران وفقدوا بسببها ما اعتقدوا أنهم قيادات ستبقى أبد الدهر، من يحيى السنوار إلى إسماعيل هنية فإلى حسن نصرالله ثم هاشم صفي الدين، من دون المرور وذكر العشرات من قيادات الخط الثاني لحماس وحزب الله. ها هو الحوثي قد بدأ يتذوق الطعم المر لمقتل قيادييه، بينما يجلس خامنئي يشاهد ويتندر على “الموت لأمريكا” التي يعرف أن فريقه يفاوضها أو سيفاوضها قريبا.
ترامب يقول: “تريدون أن نعاند؟ تعالوا نجرب لعبة العناد. ولكن عليكم أن تعرفوا إلى أي مدى يمكن أن تذهب هذه اللعبة.” هل هي لعبة عناد أم صراع قدرات أم من يصيح بصوت أعلى “الموت لأمريكا” مقابل “الموت للحوثي” كما -للمفارقة- صار يردد ترامب اليوم.
د. هيثم الزبيدي/صحيفة العرب اللندنيه
مارس 14, 2025
مارس 12, 2025
مارس 10, 2025
مارس 8, 2025